عهدته رجلا منذ كان طفلا, أخافه
رغم أنه يكبرني بعامين فقط , لكني أحبه , أراه ليلا ونهار , وحينما كبرنا وتفرقنا بالزواج ’ كنت دائما أحكي لبناتي عنه , وعن شقاوته وعن الضرب المبرح الذي كان يتلقاه من أبي لكثرة شكوي الجيران منه , ومغامراته الكثيرة التي لاتنتهي , من الطرائف التي خطتها ذاكرتي واحتفظت بها يوم امتحان الثانوية العامة , نزل أخي مهدي من البيت القابع في أحضان مدينتنا الجميلة المطرية وتعلقت أنظار أبي وأمي به فهو الكبير والأمل معقود عليه وبدلا من الذهاب للامتحان ذهب للزليقة التي يربي فيها السمك في البحر وكانت سعادته غامرة حينما وجدها مكتظة بالشبار الطازج , حملها في سلته وأعطاها لأول عابرسبيل, وذهب للامتحان بعد توسلات الأب الذي توعده بعلقة كاد يفقد فيها حياته ,كان عطوفا , وكريما ومحبا للخير كان أميرا للغلابة وزعيما للصعاليك يأكل معهم , ويسرق لهم من منزله الطعام ,و كم نهرته الأم علي مصادقته لقاطعي الطرق واللصوص لكنه كان دائما مقتنعا ببراءتهم , ولا أنسي يوم طردته الأم لأنه أتي للمنزل بصحبة صديقه حسن الكبده الحرامي , لكنه دافع عنه في تحد ..إيه يعني دخل السجن مظلوما يوم ولدت أمه ولم تجد ما تأكله فتلصص وسرق قطعة كبده من شلبي الجزار وحملها فرحا للأم التي سألته من أين أتيت بها ؟ فلم يرد ولم ترد هي أيضا وقامت واهنة تطهو ماسرقه الابن , وأصر مهدي علي صداقته وصداقة أصحابه الصعاليك نصر الجعان , وأحمد أبو جاموس , وحلمي العاصي ,وضحكت أنا وأختي سميحة وكنا في سنوات المراهقة الأولي وقلنا مهدي لا يأتي إلا بالأوباش ولا واحد يصلح فتي للأحلام , فبحثنا عن فتيان أحلام بعيدا عنه , أما هو فكان خيالي رومانسيا يعشق نجلاء فتحي أيام شقاوتها وحلاوتها ويحمل صورتها ويبحث في صمت عن من تشبهها , كان قارئا جيد , وناقد اجيد يأتي بالأخبار ويتابع كل سنوات الحب في حياة مصطفي أمين , ولأن الحب له روائح تنفذ مثل سمك الصيادية في حارتنا وصلت أمي أخبارا لا تسعدها تقول أن مهدي غارق حتي أذنيه في حب أحلام جارتنا ’ حقا ... رقة وجمال وأنوثة, لكن مهدي لازال في سنوات دراسته في الجامعة طالب يفشل,وبرغم الأحزان المرة التي تداهم كل الأحلام مهدي لازال يصادق عم عرابي ...غريب أشعث يلهث خلف رغيف من خبز وقطعة حلوي , ويجفف مايتساقط من فمه وأنفه , مهدي يعطيه من مصروفه التي لايكفيه بالكاد ويعود ويقترض ثمن هدية لأحلام , وأحلام كعادة كل الفتيات بمدينتنا ترحل مع أول زوج يطلبها لاتدري عن ملامحه شيئا , مهدي ييأس بل يفشل , لكن قوة إيمانه تنسيه الأحزان , يصبح رجلا يعشق أخويه.. الباشا ولمعي ويعشق أخواته البنات بطة وسميحة وصفاء وسلوي, كانت دنياه تخلو من الطمع وقليل المال يكفيه, ومن فمه يخرج لقمة يحتاج إليها جائع , ذاع صيت مهدي في فعل الخير وبحث عنه كبار القوم, أصبح بالعقل وبالطيبة سطوة , ومع الأيام يتزوج سلوان زوجة لم تعرف معني الحلم بداخل مهدي , وتدهس كل مشاعر تزهو براقة, وتعلمه كيف يدوس علي نون النسوة , ومهدي يتغير لا يتذكر أخا ولا أختا ولا صديقا في صحبتها تنسيه الأهل , واعتزل الناس بأمر منها , يعلو صوته مغرورا , وكأنه أصبح شخصا آخر لا تعنيه الطيبة وبراءتها , لا يقرأ أي كتاب إلا كتاب أنوثتها ومهارة خطتها , وكلام يدوي في أذنيه دعك من الحب , اوصي الشيخ الطيب , أوصاه الأب بالأخوة وبالأخوات الا يأكل حق وألا يظلم في الميراث , مهدي يبكي ويقسم ألا يأكل حقا وألا يسلب أرضا , لكن الشيطان الرابض فوق أنفاسه يضلله بألا تعطي حقا ودعهم يموتون قهرا أنت الأقوي دوما دعك للأبد منهم وتعالي نعيش ودعك من المرحوم ووصيته كان يكرهني أنسيت أم أنك تدري؟
وينصاع مهدي لإرادتها وقرر في ساعة شر ألا يعطي للأخوة شيئا , وتساءل في لحظة صدق هل هذا يعقل ؟ هل أتحول لشيطان يغدر ؟ كيف بثمن بخس أبيع الأخوة , لن أجني حقا إلا الحسرة ..مهدي ينام تطارده كوابيس وتمتد لشفتيه كي ينسي كئوس الخمرة, أصبح يعصي بالأمر ربه , وفي نومه يحلم وبريق الخيبة يناديه , ومن يجرؤ أن يوقظه من الغفوة, مهدي يستيقظ علي وقع الأصوات المرة ..يحبس أنفاسه , يكتم صوته يتذكر نجلاء وصباه الأول في العشق والشيخ محمد , والبدوي وابن أمينه السيد وشربات , وابنة خالته المسكينة كوثر , يتذكر قبلات حبيبته الأولي ورحيق العطر حين أهداها زجاجة ريحه لم يكن يعلم أن العطر يقولون عنه في البندر بارفان , يتذكر الحلوي المسروقة ومخاط عرابي النازل من حلقه حين يجففه بمنديله , والسمك الطازج في شبكة جدي , الفقر وأحلام الفقراء وحلة محشي يأكلها فوق سطوح الدار في الصيف وغناء حليم حين يجمع كل العشاق من حوله , وزواج أحلام وبكاؤه في ليال سوداء لفراق الحب الأول ووسادته التي كانت تخلو إلا من وجه حبيبته , تتعالي الأصوات لتخرجه من حلمه وفوق درجات السلم تتقافز كل الأقدام لتنجو من السقف المتهالك وهل ينجو من يسرق ؟....هيهات..يعود مهدي بشعر أسود وأحلام خضراء , لكن البيت علي رأسه يسقط ..يمتطي جوادالحب ويسرق أحلام لعوالمه الأولي , هاهي حبيبته الأولي بين ذراعيه تنهره.. حبيبي أبدا لا يسرق , مهدي يتسامي ويضم لصدره حبيبته الصغري أخته سلوي ببراءتها وبعينيها تفتح بابا لهدايته لعله ينجو..لكن همهمة الريح تنبئه بأن البيت سيسقط حتما . وبالفعل لم ينج من الذنب أحد
من صندوق الذكريات الذى يشبه إلى حد بعيد صندوق المجوهرات ... تتحفنا من حين إلى حين الشاعرة والكاتبة المبدعة الأستاذة فاطمة الزهراء ببعض ما فيه من لآلىء ودرر ... نقارن بينها وبين واقعنا المعاش فنشعر بالحسرة على مافات والخشية مما هو آت ...
تلك الذكريات الجميلة التى نحتاج إلى امتثالها الآن أكثر من أى وقت مضى .. لتكون نموذجاً إنسانياً نبيلاً للاقتداء الكريم فى علاقاتنا بالآخرين على هذا النحو النادر...
ولن أكون مبالغاً إذا قلت أن الكاتبة ذاتها تتمتع بهذه الروح الطيبة والمشاعر الإنسانية العالية ، ولها من المواقف ما إن تناولتها بالوصف على نحو ما أوردت فسيتضح للجميع أنها ليست فقط أم الشعراء والأدباء ، ولكنها أم الكرم والجود بكل المعانى المادية والمعنوية
فخالص التحية والتقدير والاحترام لها ولكل أصحاب القلوب الرقيقة والأحاسيس العالية والمشاعر الإنسانية المتدفقة