ما أجمل لحظة يروق فيها البال وتعيش مع الذكريات , لكن تري هل هي ذكريات جميلة كأول همسة , وأول كلمة حب فتظل تسترجعها كشريط السينما يمر في خيالك فتبتسم , فيعتقد من حولك بأنك في لحظم جنون , فإن كانت هذه الذكريات ذكريات قاسية , محفورة بسيخ من حديد في السجن سجلها صاحبهافي ذاكرته إلي أن يأتي أوان الخروج , نعم إنه كتاب زمن الزنازين للشاعر الكبير سمير عبد الباقي في المناقشة التي نظمها له نادي أدب المنصورة وناقشها الدكتور والقاص أشرف حسن وأدارها الشاعر الكبير سمير الأمير وحضرها نخبة كبيرة من أدباء وشعراء الدقهلية ..في البداية قدم المناقشة الأمير متسائلا لماذا يعيش الشعر في الوجدان والإجابة ببساطة إن كان صادقا ومبرا عن الوجدان , وهذا ما فعله سمير عبد الباقي في أراجوزه الشهير والذي أشعل الثورة بين الشعب قبل ثورة يناير منتقدا مبارك والوزاراء والعيشة الضنك الذي يعيشها الشعب , وحينما تهيأ جمهور الندوة للاستماع إلي الحكاية قال د. اشرف , ورغم مرارة التجربة من تعذيب وحشى والحرمان من الحياة الطبيعة ، فإنها تنبض بالروح المصرية. فمثلا عاتب أحد الزملاء سميرلأنه لم يحضرفى الموعد فقال (مش الميعاد اللى بينا انت اللى حدّدته) طغتْ السخرية المصرية على الموقف فردّ عليه : إنت اللى حددتو فى إشارة لحزب حددتوالمُنحازللضباط رغم الإعتقالات ، لدرجة كتابة خطاب من 20صفحة لعبدالناصر، من داخل السجن وبتوقيع إبراهيم عبدالحليم فحواه أنّ الاعتقالات بسبب (الطفولة اليسارية) التى لم تستوعب ظروف المرحلة. ويختتم برجاء أنْ يأمربإطلاق سراح المُعتقلين (إظهارًا لحُسن النوايا) أما الطلبة فوصفوا الخطاب بالخزى والمهانة خاصة أنه لم يتعرّض لتزايد السُعارالمُعادى للديمقراطية. وأنّ راديوعبدالناصر(كان يزعق فى هستيريا مُطالبًا بذبح الشيوعيين) بل إنّ الضابط كمال الدين حسين (وزيرالتعليم) قرّرعلى تلاميذ المدارس فقرة عن الشيوعية باعتبارها (داء ينخرفى جسم الإسلام) لذلك فدماء الشيوعيين مباحة. ومع إنّ كاتب السيرة من حدتوفقد التزم الصدق وهويتذكرماحدث فكتب (كنا زى الهواة. زى شلة صحاب بنلم بعض عشان مظاهرة لتأييد عبدالناصر. وإنْ أفكارنا عمرها ماشكتْ إنْ عبدالناصرينقلب علينا) وصدرقرارمن الحزب سمح للأعضاء بكتابة تعهد بعدم الاشتغال بالسياسة(417) ورغم صغرسن راوى السيرة فإنه رفض كتابة التعهد. فى المحكمة ألزموا المحامى بعدم الهجوم على الشيوعية ومع ذلك قال أحدهم (إحنا بنأيد عبدالناصروقراراته الاشتراكية) (423) عمى السرابُ العيون فحدّد رؤية بعض فصائل اليسارفلم يُفكرأحد أنّ عبدالناصريمكن أنْ يلقى بمُريديه وأنصاره فى السجون (37) والهجوم على اليساربتهمة العمالة للسوفيت (وضعنا نحن المُتهمين بأننا عملاء لسلطة عبدالناصرفى موقف ضعيف أمام رفاق التكتل وأمام أنفسنا) (50) خصوصًا بعد أنْ أشاع إعلام وتعليم عبدالناصرأنّ الشيوعيين كفار(وبيتجوزا من اخواتهم) وإنهم زى الشياطين فخاف العساكرمنهم فلما سمع أحدهم أنّ الشيوعى المعتقل قال لزميله أثناء لعبة الشطرنج : ح آكل العسكرى دا ، صرخ جندى الحراسة : إلحقوا الشيوعيين عايزين ياكلوا العساكر. ح ياكلونا ياسيادة المأمور(407، 441
) وتكون ذروة المأساة عندما يصل خطاب من الأب لابنه فى المعتقل يتبرّأ فيه منه لأنّ الابن وزملاءه يُمارسون ماحرّم الله (إننى لا أكاد أصدّق هذا الذى يُروى عنكم فى الصحف والإذاعة) (64) وبدأ (الجهاد الأكبر) ضد الشيوعيين بعد أنْ قال وزيرالخارجية الأمريكى لعبدالناصرإنّ معركتكم انتهتْ مع الاستعمار(عقب حرب السويس) لتبدأ مع اليسار، فدأب عبدالناصرعلى ترديدها فى خطبه. وترجمها هيكل فى الأهرام بأنّ (على الشيوعيين أنْ يضعوا أقفالاعلى أفواههم وإلا..) (فخرى لبيب – الشيوعيون وعبدالناصر- جزءان أكثرمن صفحة- وكتبها صاحب السيرة بصياغته الخاصة ص287) تواكب مع هذا تحالف الضباط مع الإخوان المسلمين وأصبح من مروا (بمسالخ السجن الحربى وطرة وزراء مثل عبدالعزيزكامل ومن قبله الباقورى (235) ولعلها أدق لحظة يمربها الإنسان عندما يُطلب منه الغناء والهتاف لجلاده ـ إذْ أمرضابط المباحث من المعتقلين أنْ يُغنوا أغنية أم كلثوم (يا جمال يامثال الوطنية) فمن غنى نجا من التعذيب أما من رفض فتم ضربه بوحشية حتى كاد أنْ يموت مثلما حدث مع نجاتى عبدالحميد الذى أصرّعلى الرفض حتى بعد أنْ وضعوه فى حفرة مليئة بالبرازوهويحتضن جثة كلب (من 315- 330) وسط جهنم الناصرية يبرزالوجه الإنسانى للشاويش عويس الذى انتهزفرصة ذهاب الضباط فأحضرلنجاتى الماء ومسح وجهه وسقاه وقطع الرغيف وأطعمه بيده. وفى وسط الظلام يبرزالشاويش عطية الذى بكى تعاطفـًا مع المُعتقلين وعند ترحيلهم قال لهم (مع السلامه أشوفكم مع الحرية) (80، 140) وبرزالشاويش محمد الصياد الذى حكى عن اضراب أنطون مارون وكان يُقدّم له اللبن سرًا (عشان يستمرفى الاضراب) ولما مات أنطون ترحم عليه. وحضرذبح شهدى عطية. وتـُشرق الفتاة المناضلة انتصارالتى تزورالمعتقلين وتمدهم بالطعام والأخبار. ويبرزالمعلم كرم تاجرالمخدرات الذى تحول من كراهية الشيوعيين إلى التعاطف معهم وتزويدهم بكل ما يحتاجون إليه لدرجة أنْ يُرسل إحدى زوجاته لزيارتهم. وتمتزج السخرية بالمأساة فى مشاهد كثيرة مثلما حدث مع الضابط الذى سأل لويس عوض عن مهنته. قال له دكتور. سأله دكتورفى إيه ؟ قال دكتورفى الأدب. ردّ الضابط ابن يوليو(حلو. ح نخرجك من هنا دكتورفى قلة الأدب ياروح أمك) واشتد الضرب لأنه مسيحى وشيوعى وصعيدى (321) والشاويش عبدالله رفض الصلح مع أحد زملائه بطلب من مأمورالسجن فسجنه مع المعتقلين فوصفه عبدالله قائلا (المأمورحمار. فاكرنفسه ح يبلفنى والله لويكون همرشيلد) وأحد المعتقلين يسخرمن عبدالناصرومن اليسارالمؤيد له فيقول إنه سيذهب للسيدة زينب (لعلها ترتق تمزقات الجبهة الوطنية) (175) وقال واحد من الإخوان المسلمين (عبدالناصرلايريد أى قوى مناوئة أومعارضة أوتفكربغيرطريقته. طريقة المستبد الذى لايريد أنْ يُقيم وطنـًا قويًا. فى رأيى إنْ السياسة تحتاج لبعض الوساخة. ولذا أربأ بنفسى كمسلم أنْ أشتغل بالسياسة) (224) وإذا كان لكل مهنة لغة خاصة كذلك كان لضباط معتقلات يوليوفمثلا (خد البغل دا إسقيه شاى خفيف) تعنى الضرب بالكرباج على القدمين العاريتين حتى يتفجرالدم منهما (228) فلنا أنْ نتخيل عندما يكون الأمر(إسقيه قهوه أوشاى تقيل) ومن سخريات الواقع أنْ تـُرسل حكومة البكباشية رئيس الاتحاد التعاونى (محمد الجمال) ليمنع انتخابات الطلبة عام 58 لذا – كما يتذكرراوى السيرة- (وكلما كان المذيع يذكرشركة أومصنعًا جرى تأميمه أخاف ، لأنه سوف يُسلم لأمثال (الجمال) الذين يكرهون الجماهيروالانتخابات . يومها تنبّأتُ للقطاع العام – رغم فرحتى بالتأميم – بمستقبل أسود عندما يتولى مسئوليته أمثال الجمال) (367، 368) (التفاصيل لمن يرغب ص 396وما بعدها) عن أهوال التعذيب في سجن المنصورة عزيزالمسيحى الذى شاء حظه أنْ يحب فتاة مسلمة بادلته الحب وتتهورلدرجة الذهاب لبيت حبيبها ، ورغم أنّ أم عزيزأخذتها وسلمتها لأهلها ، فإنّ شقيق الفتاة لأنه من ضباط يوليوالذين ملكوا الكون لفق للشاب تهمة التهرب من التجنيد وألقى به فى جحيم السجن الحربى . وهناك لم يكن التعذيب البدنى الوحشى فقط ، وإنما اغتصاب الشاب الرقيق العاشق للحياة ولفن الرسم. وظلتْ(عقدة)الاغتصاب تلاحق الفتى حتى بعد نقله إلى سجن المنصورة فأنهى حياته بالانتحار.
حكايات جعلتنا نكره الحكام ونكره الخنوع للقهر ونظل في الصناديق المغلقة في كل عصر ولم ينجو أي ثائر من القهر , وأعود مرة أخري ألح بسؤالي هل يعود زمن الزنازين مرة أخري ؟ ويعود ثوار جدد يتحدثون مرة أخري عن قهر الزنازين مرة أخري ...ربما
ثورته في رحم الغيب، رحم الشعب، وعده بها الفلّاحون والعمّال... ثورته في عِلم النيل يحييها جيلاً وراء جيل لأنّ «مصر بتطبّل على باب الجحيم/ في غياب الفكر والفهم السليم/ اليسار عاجز يلمّ شتات عياله/ والغرور دوّد في أمخاخ اليمين/ واللي كان طاير على جناحات خياله/ انكفى يقصقص في ريش حلمها
فداحة أن يسلب المرء حريته تجعل من العسير البحث عن منطق يبرر قسوة ووحشية السجن... ربما كان السجن هو الضريبة الحتمية التي لامفر من دفعها حتى ينعم المجتمع بالأمن والاستقرار والاطمئنان؟؟
0 التعليقات