غير أن قراءة النصوص التي يقدمها فكري عمر تؤكد على وجود حالة تنتظم تلك البنى السردية التي تبلغ 20 نصا مختلفة الطول والمكونات والمعطيات
.
لا شك أن الكاتب يحاول أن يجوس في المنطقة الواقعة بين الواقع وبين تبديات المخيلة النشطة في انطلاقها الحر ، كما أنه أمين مع تراث العرب السردي وبالأخص " ألف ليلة وليلة " كمنجز فني وجمالي عالي القيمة ، وهي السرديات الموغلة في البهجة بحيث تهدم الأسوار التي تفصل عوالم البشر بعوالم أخرى للعفاريت والجنيات وساكني القماقم ، ناهيك عن الأشخاص الذين يمتلكون حدسا معرفيا عميقا يمكنهم من خلاله الانتقال بسهولة بين المناخات المختلفة في العالم الغني بتشكلاته وأقانيمه المختلفة
.
لعلنا نقدر على ربط هذه التجربة بحدود تجارب أخرى تشكلت في فضاء الميتافيزيقا ليس ببعدها اللاهوتي بل بعطاءاتها الواقعية الباذخة ، بإمكانيات متزايدة لتشغيل الطاقات البشرية في أوقات المحن والنوائب وكلما ضاق الحال
.
شخصيات فكري عمر في الغالب تقع في مأزق الوحدة وتعيش عزلة لا تعرف أسبابها ، لذا نراها تتوسل بالرؤى والتهويمات والخيالات للخروج من المحنة غير أن هذا أمر لا يخلو من غطاء تخيلي ، يحتاج لقوة إرادة ولعنفوان الفعل . ربما هو ما يغيب عن السياق الذي تجري من خلاله الأحداث لذلك يظل هناك خلل ما ، يريم على الأحداث ، لا يغادرها ، وتظل الشخصيات واقعة في أحبولة النقص البشري الفادح غير أنها برغم كل ذلك من عورات ، تمتلك فضيلة التمرد على القوالب المستقرة ، والرغبة في الانعتاق من حدود عوالمها الضيقة التي يسكنها السأم ، لذلك يأتي الكشف عن ترديداتها كي تخلصها من عذاباتها المؤلمة ، المتوارثة أو المكتسبة من خصوصية تجربتها ، و الملتصقة بنفسياتها المتصدعة..استمر سمير الفيل في المناقشة مستعرضا بعض القصص ومنهاالبيت القديم ، وتداعي صورة الماضي
:
إن وعي الكاتب الفطري بأبعاد شخصياته وحضور المكان في نصوصه بشكل قوي يكثف لقطاته التي لا تأتي بمعزل عن المكان حيث يتقاطع المكان بحمولاته وترميزاته بالزمان بترديداته وثقله ، في الوقت الذي يعكس الهامش ما لديه من شحنات إيجابية تخص البيت كمهاد واقعي يحدد الحركة ، ويسورها حيث يقبع الجد في الهامش تماما ويختفي الأب إلا في لقطات عابرة فيما يتحرك الحفيد في هذا البيت المكسو بغبار من قدم ، حاملا إرثا قديما يود أن يتحرر منه لكنه في ذات الوقت يدرك أهمية ألا تنقطع صلته بالعناصر الثمينة التي تختفي في أركان البيت : تحت بلاطة قديمة أو في رسومات عارية لها مغزاها
.
بيت الجد القديم له تاريخ وليس مبتوت الصلة برهانات الحاضر فالعجائز حين يجلسون في باحة الجامع يحكون عن بناء البيت وعن سيارات النقل التي أتت فرجت حوائطهم الطينية مما أفزع صغار الطيور في أعشاشها. لقد قارنوا بيت الجد بالسرايا التي أغلقها الوريث الوحيد المهاجر خارج القطر أما الجد فقد رهن البيت ثم ضاع من أولاده وامتلكه بالأخير " عطا الله الغريب " مالك الرهون المرابي ، والمدهش أنه كان محبا للفن مثل الجد لكنه يختلف عنه في المسلك
.
صار البيت غريبا ، ولذا فقد قام الحفيد برشوة أحد الحراس وتسلل لردهات القصر. هناك رأى الأجساد العارية كأنها تخطو في الحلم ، وشم رائحة العرق المختلطة بالعطور تضغط على أنفه هو خائف ومصدوم لحظة رؤيته السحالي والديدان الزاحفة . هذا يذكره بحكاية الجد الذي عمل مع الإنجليز في توريد الخضروات والفواكه . في الحجرة العالية البعيدة يسهر الجد مع رفاقه وهو كولد مطيع يخفي وجهه حتى لا يفطن المرابي لوجه الشبه بينه وبين صديقه الجد
.
البيت كما يشير النص يقبع على أطراف الدلتا ، وقد بنى الجد في نفس القرية مسجدا صغيرا ربما ليطهر ماله الذي تبدد فيما بعد . في الغرفة المغلقة يسمع أصواتا حذرة فيما يختلس النظر تقع عينه على أحد أعمامه يخفي في جوف العباءة المدلاة بعض الأشياء الثمينة . ترتاح نفسه أن الصندوق لم يكن من بين تلك الأشياء المختلسة. في تلك الحجرة العلوية كان الجد يمكث طويلا ربما ليتفحص العقود والوصايا ، وحين رحل الجميع لم يبق سوى المنحوتات . طالما صعد سلالم البيت في حذر فوجد نسوة يتخذن أوضاعا مثيرة ، ورغم روائح الحديقة فلم تفلح في تغطية رائحة الجثث المتحركة
.
يرفع الحفيد البلاطة بسن الخنجر ويتحسس الصندوق الثقيل . يبدو مثل أرث يريد أن يحتفظ به دون أن يتورط في أثقال الماضي ومخازيه . في قلب الصندوق بعض الأوراق وبعض التماثيل الفرعونية الصغيرة وصور لرجال ونساء . يبدو أن من اشترى البيت " عطا الله الغريب " قد فتح المقهى خصيصا ليشوه صورة الجد ولينشر الأكاذيب
.
من تيار السرد تتقاطع الاحتمالات فقد يكون الجد مناضلا اشتغل مع الانجليز ليعرف خفاياهم ويرشد الوطنيين للخونة ، وقد تكون خسارته لكل أمواله إبان فترة وقوع سيناء في أيدي إسرائيل قبل تحررها قد استنزفته . تحديد الزمن بالشكل الذي جاء في تضاعيف السرد يشي بنظرية الاحتمالات فالشخص الواحد قد تتسرب عنه حكايات مختلفة ومتضاربة
.
موقف الحفيد يتلخص في أنه يتولى التنقيب عن أسرار البيت ، وما يشبه الحفريات في تاريخ هذا الجد ليضع يده على الحقيقة ، ونحن معه كمتلقين نواصل الاكتشاف عبر منحنيات النص خاصة أن الكاتب يتعامل مع الضوء والظلال بقدر كبير من الحرفية ، فأحيانا يتسلل لحجرة في البيت وسط الضوء الخابي فيكتشف حقائق ما ، وفي أحيان أخرى يخرج إلى النور ويحاور الناس على المقهى . إن الظلام يحتوي وبالتأكيد على حقائق أكثر وأسرار فريدة وفي الحديقة المتربة يملأ نور القمر سماء مضطربة ، ثم تخرج أجساد من وراء الأشجار . يحتاج لصراخ قوي لطلب النجدة من أهل القرية وهو الشيء الذي لم يعمل الحفيد حسابا له. يقفز أعلى شجرة التوت وبيده مسدس قديم به طلقة واحدة. إنها النهاية المفتوحة التي تعبر عن تصاعد الصراع واحتدامه في ليل قرية مستكينة إلا للحكايات المتسربة من ظلام الغرف القديمة..تداخل الأدباء في منظومة إنما تدل علي الوعي بالحركة الثقافية الواعية في الدقهلية ومنهم د. أشرف حسن , وفكري داوود والسعيد نجم وعلي عوض , وفرج مجاهد, وسمية عودة .وحرية سليمان ومحمد الخميسي ومحمد الدسوقي , وفي نهاية الندوة استضافت المنصة الشاعر محمد حسني توفيق , والقاص حسين الجوخ لإلقاء الضوء علي برنامجهما الانتخابي للترشبح في اتحاد الكتاب باعتبارهما من أبناء الدقهلية ولهم حق أصواتنا بلا شك
ندوة من أفضل ندوات الاتحاد فى الفترة الأخيرة وحضور متميز مكثف