مرسلة بواسطة
الشاعرة
الأحد، 23 يونيو 2013
قبل عدة سنوات اتصل بي الصديق العزيز الصحفي سلامة عطاالله, وأشار أنه يخطط لاحتفالية شبابية سوف يدعو إليها بعض الفنانين الفلسطينيين لإلقاء أناشيد وطنية ومقاطع تراثية تعيد البسمة والحيوية على الوجوه، وتجمعنا كصف واحد على صعيد قضيتنا الوطنية بدل حالة التشرذم والاستقطاب التي باعدت بيننا، بسبب ذلك الانقسام البغيض الذي قصم ظهر الوطن والقضية.
ونظراً لحساسية الحالة التي نشأت بعد الأحداث المأساوية الدامية في يونيه 2007, قلت له: يا أخ سلامة.. رغم قناعتي بدوافعك النبيلة، وحرصك على رسم البسمة على وجوه الشباب, إلا أن إخواننا “المشايخ” قد لا يرضيهم وجود نشاط فني يتوسع فيه الطبل والزمر ونحن – كما تعرف – شعب مجروح, وقد تتباين مواقفنا تجاه أشكال الفرحة التي يرغب بها البعض أو يعارضها.. قال: يا أخ عصام؛ أنا افكر في دعوة فرق وطنية وشخصيات مشهود لها بأناشيدها الملتزمة, فنحن نريد احتفالية تُذكرنا بأمجاد الثورة الفلسطينية والمواويل التي تُحي بطولات الشهداء وتبعث فينا الحياة والأمل, وتُغطي على جراحات الأمس القريب التي ادمت القلوب, وأرهقت المشاعر.. سأدعو الفنان محمد عساف صاحب أغنية “عليِّ الكوفية”، والفنانة إلهام أبو ظاهر و”الفرقة الوطنية للفنون الشعبية” التابعة لها، وآخرين.
قلت له: عليك أن تحرص – أيضاً – على مشاركة فنانين من التيار الإسلامي، حتى لا يظهر الحفل وكأنه فعالية فتحاوية, لأنك – عندئذ – ستواجه باعتراض البعض ورفض البعض الأخر.
كان الأخ سلامة ذكياً في اختيار المشاركين، وكانت الأمسية بالغة التأثير والروعة؛ ألهبت مشاعرنا الوطنية، وأمتعت جميع الحضور الذين اكتظت بهم قاعة رشاد الشوا بغزة, وقد تمتعت – على المستوى الشخصي – بكل فقراتها, وانتابني شعور بأن للفن لمساته في تطبيب مواجع قلوبنا, كما أن دوره لا ينكر في الجمع بين من فرقت السياسة بينهم.
كانت الاحتفالية فرصة ليشارك فيها الجميع، ونعيش ساعات من الراحة ليس فيها من عفن السياسة شيء, ولكنها مضت كلحظاتٍ شعر فيها الجميع بالسعادة, وعشنا مع الوطن وأشجان النغم ما أعاد لنا لحمتنا الوطنية.. قلت: سبحان الله؛ إن هذا الشعب الذي فرقته السياسة بخلافاتها البغيضة, جمعته كلمات الوطن الشجية وبعض مواويله التراثية.
في تلك الليلة، غنّى محمد عساف “عليِّ الكوفية” وكانت المرة الأولى التي اسمع فيها باسمه, ولكنني ادركت أننا أمام فنان واعد, يمتلك حنجرة وطنية توزن بالذهب، وسيكون لأيامه تلك ما بعدها.
واليوم, وبعد أربع سنوات, يطل علينا الفنان محمد عساف في مسابقة “عرب ايدل-Arab Idol” ليجتمع عليه الفلسطينيون في البيوت ينتظرون طلته ولحظة غنائه ونجاحه بالاستمرار في المسابقة.
نقاشات كثيرة تدور داخل العائلة الواحدة، بينما الجميع يتابع الفنان الصاعد ابن فلسطين، ابن خانيونس، ابن القطاع المحاصر, بحيث تتراجع السياسة لحساب محمد عساف الفنان الذي شدَّ الجميع بصوته، وادخل البهجة والفرح إلى قلوب معظم الفلسطينيين.
لا يمكنني أن أظل بعيداً عن حديث الأولاد والعائلة, فأتابع أحياناً ولبعض الوقت مشاهد المسابقة، واشارك في النقاش الدائر بين الصغار, موضحاً لمن يحتج على صخب المشاهد وبعض الأغنيات بأن هذه المسابقة ليست برنامجاً أو منتجاً بأيدي إسلامية, وأن القائمين عليها يتطلعون لكسب الشهرة والمال, وأن هؤلاء المتسابقين بينهم خامات طيبة، وبعضهم قد نشاهدهم يومأ فنانين إسلامين كبار؛ فالناس – كما في الحديث – خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام اذا فقهوا, ولقد رأينا بعض المتألقين في الساحة الفنية, قد أكرمهم المولى سبحانه فتحولوا الى ساحة الفن الإسلامي, أمثال الفنان اللبناني فضل شاكر والبريطاني كاتي ستيفن(يوسف اسلام) وأخرين.. نحن نعلم أن الكثير من هؤلاء وأولئك الفنانين هم في أعماقهم ملتزمين إسلامياً، ولدى بعضهم من أدب السلوك والأخلاق ما يمنعهم من الانجرار الى الدرك الهابط الذي انساق له الكثير من فنانين “السح الدح إمبو”, لكن بدايات الطريق تفرض عليهم أحياناً شيئاً من غبارها، والذي سرعان ما ينفضه مع بلوغه غاياتها.
لقد عرفنا الفنان محمد عساف من خلال أغانيه الوطنية وحنجرته التي تصدح بالمواويل التراثية كـ(العتابا, والميجانا, وزريف الطول)، وهو اليوم سيكون الوريث للفنان الشعبي المعروف “أبو عرب”، الذي أحببنا في سنوات غربتنا عن الوطن كل ما صدح به من أغاني وطنية، جعلتنا نعيش فلسطين؛ كرومها وبياراتها ومقدساتها في كل لحظات حياتنا.
إن رسالة الفن الأصيل لا تقل في وطنتيها وتأثيرها عن كلمات القادة وزعماء الفصائل، بل هي أحيانا المحرك للثورة والفعل الثوري, وأن كلمات الفنان الأصيل وألحانه هي وجدان الشارع الذي يرسم بالكلمات الطيبة ونبض الايقاع معالم الوطنية الفلسطينية الصادقة، ويشدنا الي مواطن الآباء و الأجداد.
كم امتعتنا اغاني “فرقة العاشقين” وأشعار أحمد دحبور التي جرت على ألسنة مطربيها, وكم هيجتنا ميس شلش وهي تشدو وبحرفية عالية” “أحمد ياسين علمنا.. أبو عمار علمنا.. الشقاقي علمنا.. نموت وتحيا فلسطين “.
همسة عتاب..
لكل الذين تحاملوا – جهلاً أم خطئاً – على الفنان الصاعد محمد عساف أن يدعو الله له بالنجاح والتوفيق، فهذا التميز في الصوت والنغم والشهرة هو اليوم كسب للشعب والقضية الفلسطينية, وكم من شعراء الجاهلية خدموا رسالة الإسلام، وكانوا بعد أعلنوا إسلامهم خير سلاح استخدمه الرسول – عليه السلام – في وجه اعداء الدين وسدنة الجاهلية. ولعلنا نذكر مقولة رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ” (يَا حَسَّانُ اهْجُهُمْ، وَجِبْرِيلُ مَعَكَ، وَقَالَ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةٌ, وَقَالَ: إِذَا حَارَبَ أَصْحَابِي بِالسِّلاحِ فَحَارِبْ أَنْتَ بِاللِّسَانِ.”
اتمنى كحمساوي تبرعت بخمسة أصوات للفنان محمد عساف أن يفوز بقلب “محبوب العرب”، فهو يستحق ذلك بجدارة, وسيبقى صوته يصل الى العواصم العربية سفيراً لفلسطين، التي سيبقى فناناً ملتزماً يغني لمدنها ومقدساتها, لتينها وزيتونها, لتاريخها وأمجادها, لسحر جبالها ووديانها, لشهدائها وجرحاها, لأبطالها وعظمائها, لأمهاتها وآبائها, للأقصى والخليل ونابلس وجنين, ولأطفال الانتفاضة والأسرى والمعتقلين.
إن الفنان محمد عساف تنتظره أروع القصائد والأشعار الوطنية ليشدوا كلماتها ألحاناً وأنغاماً تجمع الفلسطينيين في الوطن والشتات, وتعيد لهذا الوطن مكانته في صدارة الوجدان العربي؛ باعتباره قضيتهم المركزية وأرض المقاومة والجهاد المباركة, والتي هي على مشارف نداء واحد: ” يا خيل اعلي اركبي”.
لإخواني وأحبتي من نلتقي معهم الرأي – حول هذا الفنان الفلسطيني – ومن نختلف, أذكّرهم بأننا “دعاة لا قضاة”, ومطلوب منا ان نتخير اطايب القول لمن نأمل فيه الخير, ولقد كان المسلمون في أول سنوات الدعوة بمكة يلهجون بالدعاء “اللهم أعزَّ الإسلام بأحد العمرين”.. لقد كسب المسلمون بحسن سلوكهم وبمودة التعامل مع الآخر رجالاً كانوا في الجاهلية من أشدِّ الخصوم, ثم اصبحوا بعد إسلامهم أعلاماً وقادة، فتحوا البلاد ودكوا حصون الأعداء, وأشادوا لمحمد الرسول “ملكاً لم يبلغه أحدٌ من بعده”.
إنني اناشد إخواني وأحبتي في حركة حماس أن يكون الدعاء للفنان محمد عساف بالتوفيق والهداية والصلاح، فهو شاب طيب ومن أسرة كريمة، وأن علينا أن نشد على يديه، وأن نبارك له نعمة حنجرته، وندعو الله الذي أفاض عليه بهذا الحب الكبير بين الناس أن يُسخَّره حباً لشعبه ووطنه .
انني اعيد واكرر ما قاله أخي النائب د. يحيى موسى بأن الفنان محمد عساف هو بمثابة “سفيراً لفلسطين”, وأن كلماته ستصل برقتها ومعانيها الوطنية الى قلوب الملايين، وأنه يشكل “إضافة نوعية إلى المدافعين عن القضية وحملة مشاعل الثقافة الفلسطينية”.
لقد باعد الانقسام بيننا وقست معه – للسف – قلوبنا, إلا ان ساعة المشاهدة لمحبوب العرب “محمد عساف” لملمت – بحمد الله – شعث صفوف عائلاتنا، وجمعت شباب الحارات بمختلف انتماءات تيارات آبائهم وعوائلهم حول الشاشة الصغيرة أو الشاشات المنتصبة في الساحات والميادين العامة.
لقد تعلمنا من أدبيات رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) أن نمارس لغة الدعوة بمنطق الدعوة بالهدية لكل من نختلف معه, “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون”.
لقد أحببت الشاب محمد عساف منذ أن اطربني بأغنيات “شدي حيلك يا بلد” و “عليِّ الكوفية”، وببساطة أناقته وملبسه الذي يعكس بؤس حياة أبناء المخيم، والذي ذكَّرنا بحالنا عندما كنا أطفالاً نلهو بأحلام الكبار في حواريه وأزقته .
وبانتظار انطلاقته الثانية، التي ستأخذنا الى حيث عبق التاريخ والتراث الفلسطيني، ولكنها ستكون – بلا شك - من خلال اطلالة وطنية متميزة ستتابع مشاهدتها الملايين من جماهير الشعوب العربي ومن أبناء فلسطين في الوطن والشتات.
لقد كسب الفنان محمد عساف القلوب قبل اللقب، كما يقول صديقي سلامة عطاالله من بروكسل، وهو اليوم غدا رمزاً وطنياً وليس ملكاً لذاته، وكلماته نريدها أن تكون بطهر الوطن وقداسته.
إننا نتمنى عند عودته – قريباً – إلى قطاع غزة أن يتم الترحيب به على المستوى الرسمي، من خلال وزارة الثقافة الفلسطينية ومكتب رئيس الوزراء، كما نرجو أن تفتح له الساحات ليلتقي الشباب ويشدو – بوطنية عالية – لفلسطين؛ الشعب والأرض والقضية.
0 التعليقات